الأربعاء، 24 مارس 2021

صرخة ثائر

 


في ليلةٍ لا تُشبه الليالي الغابرة، كانت تُقاسم نبضها النبض والآه، تتشبثُ بحوافِ النجاة فتعضُ نواجذها وتتصبب عرقًا من فرطِ التمسك، تزدحم الصور أمام أعينها فتصنعُ زخمًا من الجلادة والإقدام؛ تذكرت الأمس والوعد على أرضٍ كانت تحملُ لها قُبْل الفرح والياسمين، رأت موقعها من القدر فحمدت وشكرت ثم ثَنَت على جبينها بكفِها ضربة حَسِبتها طفيفة لكنها كانت كافية ليرتد صداها على جدران الغرفة المضيئة؛ عادت تُكابد ضعفها محاولةً صَفْع وجعها بنظرةٍ تُثقب ثغرات الدقائق، وتُعيد لها بعض من انتصاراتها على الزمان، ذلك الزمان الذي سلبها الظهر والحماية، وأخذ منها كل ما ملكت من أسباب تستحق الحياة، حتى ظنت أن رحلة أنفاسها قد أوشكت على الرحيل، إلا أن رحمة السماء وسعت كل توقعاتها فألهمتها بذرة ودعاء، كان يُعانق مِهاد عشقها عند كل ليلةٍ مجنونة عاشتها؛ غمرتها الابتسامة بدمع وانكسار رغم ثباتها، كانت تعلم أن للكون قدرة هائلة على ترميم الخدش والجرح وحتى الفراغ يمكنه الاكتفاء والتشبع من التجارب والدروس، بيد أن فراغها كان مختلفًا، فراغ الروح والرفيق، رفيقها الذي حارب صِعاب الطرقات لأجل مشاركتها الحُلم والشغف، شغفها بالأمل والحب، حيث كان هو حُبها وقلادة حظها من الأمنيات، تَوجها في يومٍ ميمون ملكة على قلبه وتاج على رأسه، وبعد فترة قصيرة من فيض اللقاء الحلال والصادق ثارت القلوب الطيبة في أرض الخير على الظلم والفساد، طلبت حقوقها فأعلنت النضال من أجل الحرية والسلام، وكان الرفيق أول من سَلَكَ الشارع وهبَّ صوب هتافات الصمود والبسالة، استمرت مواكب الثورة رغم الدماء والرصاص، رغم دموع الأمهات وقلق الحبيبات، وما بين الاعتقال والفقد اشتعلت الحناجر فانفجرت براكين من غضب وإيباء، ثم توحدت الصفوف دون انشقاق وريبة، دون محاصصة في فداء الوطن والإنسان؛ وها هيَّ الآن الرفيقة تعود لتجتر الأيام الأولى من نبأ حياتها الثانية، تلك الحياة التي وجدتها داخلها بعد طول معاناة وشقاء، ها هيَّ تحتمل طقطقة الألم في أعصابها، تلتوي أحشائها وتنبسط في قسوةِ مخاضِ طويل، أفقدها جُلَّ حولها وقوتها، لكنها ما زالت تهتف بركيزة صامتة وتتقدم نحو الخاصرة والوجود، تُدرك أن ثورتها لها، وستنتصر رغم هوان جسدها، ستخرج إلى العالم بهويةِ عظيمة، تشبه رفيقها الأسمر، وتحمل كل جيناته الأبية، وتثبت لها أن الحياة تستحق أن تُعاش مرتين وأكثر، رغم أنها في الواقع مَرة ومُرة عند كل كبوة، لكنها كفيلة بنا وبحكاياتنا، جديرة بالثقة والمحاولة والنهوض مجددًا ثم المضي نحو بوصلة تفهمنا فنحدد بها مَنْ نكون، وإلى أي الأوطان ننتمي؛ هكذا كانت الرفيقة تروض نوبات طَّلْقِها وتخفف حِدتها بتخيل ما بعد الخلاص، ظلت على هذا المنوال إلى أن أتت لحظةً حاسمةً خارت فيها قواها وكانت بين صلابتها وتوترها تقاوم فقدان الوعي، التف كل مَنْ كان بالغرفة حول ثباتها، فهرعت الطبيبة في مناداتها علها تسمعها وتساعدها أكثر بالدفع والمقاومة، وقد سمعت ورأت الرفيق كطيفٍ أو كان حقًا أمامها، مدّ يده فحمل عنها ما تحملت من عناء، وما إن شدت على يده حتى نالت ما انتظرت فسمعت صرخة ملائكية صغيرة وشجاعة، دمعتْ عيناها فخالجتها مشاعر من فرح وامتنان، فخر وكبرياء، والكثير من الحزن بعد أن حملت صغيرها ونظرت حولها، لم تجد رفيقها الشهيد لكنها تحمل ابن الشهيد، فوجدت ملامحه الثائرة عليه، كأن الحياة تطبطب على قلبها بصرخة، ثم راحت تفكر باسم له، يُليق بوالده واحترامه، يُليق بالحرية والسلام، اسم يذكرها كل مواقف النضال فكان نصيبه اسم (ثائر).